عرفتُ الألم، فتمنيتُ لو تحولت ذاكرتي
إلى بئرٍ ألقي فيها أحزاني، فيُغلق
عليه غطاءٌ من النّسيان يدفعه لأن يتلاشى
من حياتي إلى غير عودة.
وتلاقيتُ مع الفرح، فتاقت نفسي لأن يبقى
مخلّدًا في ذاكرتي إلى الأبد، وأن يعيش
معي كلّ لحظة، يضفي إضاءات هادئة على
أيامي، فأحياها سعيدة، دون همٍّ أو كدر.
لكنّه النّسيان..
يأبى إلا أن يدثّرني بعباءته ليذكرني
دائمًا بضعف البشر...
ضعيفة أنا، تخونني ذاكرتي كلما قلبتها
فلا تسعفني في تذكر بعض الأوجه
والتفاصيل، تمنُّ عليَّ بلوحاتٍ قديمة
لطفولتي، شهيّة فيها البسمات، رائعة
من خلالها الحياة، ثم تعود لتخطفها
منّي...
وتعاندني أحيانًا فتلقي الضوء على
مشاهد دفنتها طويلًا في أعماقي،
أبعدتها دومًا، سيّجتها بأسوارٍ شائكة،
فما سمحتُ لأحد أن يقترب من حقولِ
ألغامي، من دائرة أحزاني القديمة، لكن ذاكرتي تأبى إلا أن تعود، يروقُ لها
حزني، ودموعي تطفئ فتيل غضبها،
لتنسحب في هدنة مؤقّتة، لا تلبثُ بعدها
إلا أن تعود أقوى مما كانت، وأشدّ سطوة
وإيلامًا.
كنتُ أظنّ أن النّسيان
المطلق أمرٌ حميد، نسيان الأمكنة
والوجوه، المواقف والأشخاص، أرقام
الهواتف وأسماء الشّوارع...
أنا وذاكرتي الفارغة من التفاصيل،
البيضاء مطلقًا من مشاعر الفرح أو
الحزن، الشفّافة المستعدة لأن تطبع كل
جديد ورائع، وأن تخفيه في صندوقٍ كنز
في الأعماق...
لكم كانت تروقُ لي لعبةُ الضياع في أزقّة
المدينة، أمشّطها جميعًا حتى أعثر على
هدفي، وأسألُ كلّ المارّة عن عناويني
التي أضعتها، وأستجيب لدلالاتهم، أستقلّ
السّيارة والحافلة لأقرأ خارطة مدينتي
الحبيبة بمفهوم جديد، أو أمضي سيرًا
في الهواء الطلق، أتوحد مع الأرض
والعشب ورائحة الزهر، أو أولّي هاربة
من ضوضاء المدينة، ورائحة الإسفلت
الجديد، يعبّد طرقًا تحملُ لي أو عنّي
كومة من الذكريات...
وكم كان يمتعني قطفُ
زهر الياسمين المتدلّي من على أسوار
المنازل، ليخبرني برسالة موجزة أن لا
ضياع أبدًا في بلاد يعيش فيها الياسمين.
ولكم كان يسعدني أن أتعرف من جديد على
أشخاصٍ أعرفهم، فأجدد انطباعاتي،
أصوّبها أو أؤكدها، لأغوص في بحرٍ
العلاقات البشرية الغامض، دون خوفٍ ولا
ريبة، مستعينة بقنديلي المضيء في
داخلي، وأنا أزوده بوقود عقلي، فأفهم
قصوره ونماءه، قوّة الخالق في تكوينه،
وضعفي في ترتيبه...
وقد نصحوني مرارًا أن أشنّ هجومًا على
بقايا الذاكرة، أرتّبُ فيها سجلاتي
المبعثرة، أمسحُ الغبار المنثور في كل
زواياها، وألقي في سلّة المهملات كلّ ما
لا أحب، وما لا أريد!!
وأحتفظ بكل ذكرى طيبة، أو صورة رائعة،
أحيطها بإطار من ذهب، أرشّها برذاذ
يحميها من التّلف...
قالوا لي؛ بوسعكِ تأسيس عالمكِ الذي تحبّين، عبر أهدافكِ
وتصوراتكِ، وبإمكانكِ تشييد مملكة
عظيمة، من بنات فكركِ وطموحاتكِ، فقط
فلتهجري كلّ ما يعكرك، ولتلقي بكل
الذكريات التي تؤرقكِ، لكنني أبيتُ إلا
أن أجعل للآلام زاوية خاصة في عالمي،
وللحزن عرشًا يتربع في قلبي، لأتعلم من
أخطائي القديمة، ومن أخطاء غيري، فقد
آمنتُ أن للنسيان حكمة، وللذكريات على
تناقضها معانٍ جميلة تتشكل مع الأيام،
لتهب المرء فهمًا للحياة، قد لا يتخيل
أن يحصل عليه حين يصطدم بتلالِ أحزانه