حركات الأرض بين العلم والقرآن
أولاً: كروية الأرض ودورانها حول نفسها (1)
في ضوء القرآن الكريم
أ.د/ منصور محمد حسب النبي(2)
أولاً: شكل الأرض:
منذ خمس مئة سنة، وقبل ذلك، عبر تاريخ البشرية، كان الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة وترتكز على ثلاثة حيتان، وكان المعارضون لهذا الرأي يشدون إلى الوتر ويحرقون، ولهذا لم يجرؤ أحد على معارضة هذه الخرافة، وظل خط الأفق الرفيع الغامض يحير الناس الذين كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة كالقرص، وكان هذا الأفق في نظرهم نهاية الأرض، الذي تقع وراءه دار الخلود، وأرض النعيم، والأعمدة التي تحمل الكرة السماوية، والباب الذي تخرج منه الشمس لترحل عبر السماء. وزعم اليونانيون أن المرء يمكنه في المساء أن يسمع ( طشطشة ) الشمس الساخنة، وهي تغطس في المحيط الواقع وراء الأفق، ولكنهم لم يجازفوا بالذهاب إلى هناك، واكتفى الجميع بالخيال أمام كل مجهول!.
ورغم انتشار هذه الخرافات أعلن بعض قدماء الإغريق أن الأرض كروية، وأجرى إيراتوثنيس قياسات لقطر وحجم الأرض، مستخدماً الفرق بين أطوال الظل التي تلقيها الشمس عند مدينة الإسكندرية وعند نقطة أخرى تبعد عنها مئات الكيلومترات إلى الجنوب، ورغم هذا ظل الإحساس العام بأن الأرض منبسطة ومستوية سائداً عبر قرون طويلة، ولم يكن التوصل إلى كروية الأرض عملياً أمراً ميسوراً، وخاصة وأن الاعتماد على الحواس وحدها دون التدقيق التجريبي كان يؤدي إلى الانطباع الخاطىء بأن الأرض مستوية، فالظاهر لنا جميعاً أنها مستوية وليست كروية، فلقد رأى الإنسان البدائي أرضه منبسطة ومحدودة، وهو لا يدري أن سطحها يتكور تحت قدميه كلما طالت المسافات.
ورغم أننا اليوم نعيش عصر العلم وعرفنا بلا شك أن الأرض كرة، فإننا لا نزال نتحدث عنها على أنها مسطحة ونسميها ( البسيطا )، كما أننا في حياتنا وقياستنا العادية لا ندخل انحناء سطحها في اعتبارنا، فالمهندس يقيس المسافات على سطح الأرض في مستوى واحد قائلاً على سبيل المثال: إن المسافة بين القاهرة وأسوان 420 ميلاً، دون أن يدرك للأرض انحناء أو عمقاً عن مستوى القياس في أول الطريق....!.
ولقد توقع أرسطو ظاهرة انحناء سطح الأرض وكرويته بنفس الحجة البدائية التي نسوقها اليوم لأطفالنا للتدليل على كروية الأرض باختفاء جسم السفينة قبل شراعها عند بدء ابتعادها عن الشاطىء، وكذلك ملاحظة الشكل الدائري لظل الأرض على سطح القمر أثناء خسوفه لنرى قوساً من دائرة يؤكد كروية الأرض.
ورغم الحقيقة العلمية، فالأرض منبسطة أمام الناس دون إدراك لكرويتها، إلا إذا نظرنا إليها من الفضاء البعيد، كما حدث لأول مرة عام 1961م عندما رآها رائد الفضاء الروسي جاجارين، فاطمأنت القلوب لكرويتها برؤيا العين تثبيتاً لرؤيا العقل، بينما أشار القرآن الكريم لهذه الحقيقة قبل عصر الفضاء بألف وأربع مئة سنة، وسنشرح ذلك فيما بعد.
ولقد اهتم علماء المسلمين، أمثال الرازي والبتاني والبيروني والخازن وابن رشد والمجريطي وغيرهم، بعلم الفلك لمعرفة أوقات الصلاة واتجاه القبلة، ورؤية أهلة الشهور العربية القمرية، وأكد علماؤهم كروية الأرض، كما جاء في كتاب ( عجائب المخلوقات ) للقزويني، لإثبات ذلك برؤية قمم الجبال الشاهقة من بعيد قبل رؤية سفوحها، وغياب أسفل السفينة المسافرة عن راصدها قبل اختفاء شراعها، كما قاس العرب المسلمون حجم ومحيط وقطر الكرة الأرضية وميل تلك البروج بمقدار 23.5 درجة وكتبوا عن الكُلَف الشمس وبروج القبة السماوية ونجومها.
ولقد توقع نيوتن ( 1687م ) أن الأرض كروية، بل وأنها تنبعج قليلاً عند خط الاستواء نتيجة تأثير القوة المركزية الطاردة الناتجة عن دورانها حول محورها لتأخذ بالتالي شكلاً مسطحاً عند القطبين ( مثل البيضة )، ذلك لأنه عندما كانت الأرض حديثة العهد، وكانت قشرتها لينة ساخنة ومعدل دورانها حول محورها سريعاً، قامت قوة الطرد المركزي الناشئة عن هذا الدوران بسحبها عند خط الاستواء وضغطها عند القطبين.
ومنذ بدأ عصر الفضاء في عام 1958م وحتى الآن يتم المسح الشامل بالأقمار الصناعية لكوكب الأرض الذي تم تصويره، كاملاً لأول مرة من الفضاء، وتحقق العلماء من كروية الأرض واختلاف قطريها مع ملاحظة أن قطرها يبلغ 12756.8 كم عند خط الاستواء بزيادة قدرها 43كم عن طول القطر بين القطبين، وهذا التفرطح البسيط عند القطبين يعطي الكرة الأرضية شكلاً بيضاوياً عند التدقيق في الصورة، ولو أن الفرق بين القطرين ضئيل مما يجعل الأرض أقرب إلى الكرة عند النظر إليها من بعيد.
والآن، ولقد تأكدنا علمياً من شكل الأرض ودورانها حول محورها وحول الشمس يسعدني، وبالله التوفيق، أن أوضح الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في هذه الحقيقة اليقينية، وذلك بدبر آيات الله على ضوء ما وصل إليه العلم الحديث في عصر الفضاء رغم أن الناس، عامتهم وخاصتهم بل وقدماء المفسرين، لبثوا قروناً بعد نزول القرآن وهم يعتقدون أن الأرض مسطحة وثابتة لا حراك فيها، بل إن أكثر الناس حتى الآن لا يدركون كروية الأرض وحركتها.
وللقرآن الكريم أسلوبه الحكيم للدلالة على ما يريد الإشارة إليه من أسرار الطبيعة ليكون كل سر منها: ( إذا أذن الله بالكشف عنه ) هادياً إلى الله خالق الكون ومنزل القرآن، بل وتصديقاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون التعبير القرآني عن الحقيقة الكونية بأسلوب يطابقها تماماً أو يدل عليها أولو العلم، وفي نفس الوقت لا يصدم الناس فيما يعتقدون ولو كان ما يعتقدونه مخالفاً تلك الحقيقة!، وهذا هو سر الإعجاز العلمي للقرآن بأسلوب لا يقدر عليه إلا الله الذي أنزل القرآن بالحق هدى للناس، وعلى الراسخين في العلم بيان الإعجاز، كما في قوله تعالى: )وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به([آل عمران: 7].
حقاً، فالعلماء هم الذين سيدركون عظمة معاني القرآن الكريم كما في قوله عز وجل: )بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ([العنكبوت: 49].
( أ ) كروية الأرض في القرآن الكريم:
لقد أشار القرآن الكريم إلى كروية الأرض في عدة آيات نستعرضها فيما يلي:
يقول سبحانه: )يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ([الزمر: 5].
والفعل ( يكور ) معناه: يلف في استدارة، فيقال في اللغة: كار العمامة على رأسه وكورها، يمعنى لفها، ولقد فهم المفسرون القدماء هذه الآية على أنها لف زمن النهار على زمن الليل، ولف زمن الليل على زمن النهار، بمعنى: إدخال ساعات أحدهما في الآخر، باعتبار كل من النهار والليل ظرف زمان فقط بحقيقة اللفظ، ورغم التزام المفسرين بالمعنى الأصلي ( أي: بالمفهوم الزمني لليل والنهار ) فإن هذا التفسير لا يعطي المعنى المقصود في الآية، لأنه لا معنى مطلقاً لتكوير ( أي: لف زمن على زمن )، ولكن المعنى المقصود لا يأتي إلا باستخدام ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، والذي نقدمه هنا على أساس أن الله سبحانه وتعالى ذكر لفظ الليل والنهار في معظم الآيات القرآنية كإشارة إلى لازمين من لوازمهما الستة: ظلمة الليل ونور النهار أو مكان حدوثهما أو السبب فيهما، ولو تدبرنا علمياً الاحتمال الصحيح في اللوازم الستة المذكورة، كمجاز مرسل، فإننا نستنتج المعنى المقصود للآية كما يلي:
يكور الله تعالى أو ينشر، أي: يلف، في شكل كروي ظلمة الليل على مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويكور أو ينشر ويلف في شكل كروي نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وقرينة هذا التفسير قوله تعالى: )يكور (،والتكوير لا يعقل أبداً في زمن الليل والنهار ويتطلب لف شيء على آخر، وهما ظلمة الليل على مكان النهار، ثم لف نور النهار على مكان الليل في الغلاف الجوي الكروي المحيط بالكرة الأرضية، ويترتب على هذا المعنى المقصود من آية التكوير حقيقة علمية هامة، وهي أن الله سبحانه وتعالى يلف الأرض الكروية حول محورها فيحدث تتابع وتبادل الليل والنهار، كما أن الليل والنهار رغم هذا التتابع موجودان في آن واحد على سطح الأرض الكروي، لأن الشمس تنير نصف الكرة الأرضية المواجه لها نهاراً، بينما في نفس الوقت يكون النصف الآخر في ظلام، أي: ليلاً، نتيجة كروية الأرض مصداقاً لقوله تعالى: )أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ([يونس: 24].أي: الليل والنهار موجودان معاً على الكرة الأرضية في وقت واحد وفي مكانين مختلفين، وهذا لا يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية وليست مسطحة، ولا يحدث التتابع والتبادل إلا إذا دارت الكرة حول محورها، والدليل على ذلك تكرار الفعل ( يكور ) مرتين، حتى لا يسمح القرآن بالتفكير في غير ذلك وليتطابق النص القرآني مع الحقيقة العلمية الحديثة، وبهذا فإن آية التكوير [ الزمر: 5] تؤكد كروية الأرض وتشير أيضاً إلى دورانها حول محورها.
( ب ) بسط الأرض:
بالنسبة لشكل الأرض أشار القرآن الكريم إلى اختلاف قطريها كتفصيل دقيق لكرويتها في سياق الحديث عن تاريخها المبكر عند نشأتها بقوله سبحانه: )والأرض بعد ذلك دحاها ([النازعات: 30].ولقد أجمع المفسرون على تفسير لفظ ( دحا ) بمعنى مدها وبسطها، بينما الفعل ( دحا ) له معاني أخرى وردت في اللغة لم يذكرها المفسرون نذكرها فيما يلي:
( أ ) ( دحا ) بمعنى ( رمى من المقر )، وهذا فعلاً ما حدث للأرض عند انفصالها من الشمس منذ 4.6 مليار سنة، وخاصة وأن الفعل ( دحا ) أتى بعد تمام إخراج الضحى في السماء في قوله تعالى: )وأخرج ضحاها (أي: أتمّ صنع النوم فيها...
( ب ) ( دحا ) بمعنى ( أزاح )، كما ورد باللغة دحا المطر الحصى عن الأرض، والإزاحة معناها حركة بسرعة معينة مما يشير إلى حركة الأرض، ولقد اكتشف العلم الحديث خمس حركات رئيسية ومتزامنة لكوكب الأرض!.
وكل هذه المعاني للدحو لم يستوعبها المفسرون لعدم معرفتهم العلمية لدرجة أنهم فسروا الآية: )والأرض وما طحاها ([الواردة في سورة الشمس ]بمعنى مد الأرض وبسطها تماماً مثل تفسير الفعل ( دحا )، وقرينتهم في ذلك قوله تعالى في آية أخرى: )والأرض مددناها ([ق: 7]. ولقد فسروا الفعل( مد ) أيضاً بمعنى بسط رغم أن هذه الآية كما يقول فضيلة الإمام الشيخ الشعراوي، تدل على أنك أينما ذهبت فوق الأرض تراها ممدودة أمامك، وهذا لا يمكن هندسياً إلا إذا كانت الأرض كروية، إذ إنها لو كانت مسطحة لاختفى هذا المد عند الوصول لحدودها، وبهذا نلاحظ دقة التعبير القرآني الذي اختار اللفظ الوحيد المناسب هندسياً، فكلمة مددناها تعطي المعنى المزدوج للانبساط والتكوير، وهذا من عجائب الإعجاز العلمي للقرآن!.
وخلاصة القول: إن الفعل ( دحا ) معناه لغوياً: مد وبسط، ورمى من المقر، وأزاح، وكل هذه المعاني تنطبق على ما حدث لكوكب الأرض، طبقاً لحقائق العلم الحديث، كما أن الفعل ( طحا ) أصله الذهاب بالشيء، أي: قذفه من مقره ثم مده وبسطه، ويقال: ( طحا بالكرة )، أي: رمى بها ولم يأخذ المفسرون بهذا المعنى رغم أنه وارد في تكوين الأرض علمياً من السماء بفصلها وقذفها بعيداً عن الشمس، كما ورد ذلك في سورة الشمس بعد وصف بناء السماء في قوله تعالى: )والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ([الشمس: 1 ـ 6].
ورغم هذا أصر قدامى المفسرين على اعتبار الطحو والدحو بمعنى واحد، وهو: المد والبسط فقط، ولكن العلم الحديث أتاح لنا إدراك عظمة التعبير القرآني، وأن نكتشف المعاني الحقيقية لعملية التكوير والدحو والطحو والمد بما يتناسب مع بلاغة القرآن وإعجازه اللغوي والبياني والعلمي.
حقاً، إن القرآن معجزة الدهر، أي: معجزة خالدة متجددة يتبين للناس منها على مر الدهور وجه لم يكن تبين وناحية لم يكن أحد يعرفها، فيكون هذا التجدد في الإعجاز العلمي سنداً قوياً للرسالة الإسلامية وكشفاً لكنوز القرآن وبرهاناً على صدق الوحي ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعالمية رسالته.
وهنالك آيات أخرى تؤيد كروية الأرض وبيضاويتها بانحناء سطحها، كما في قوله تعالى: )وفي الأرض قطع متجاورات ([الرعد: 4]. ويفهم القارىء العادي من هذه الآية تجاور حقول المزارعين بما فيها من جنات وأعناب ونخيل، ولكن المتمعن علمياً في معنى هذه الآية يرى: إذا كان جيولوجياً أن الألواح القارية ( التي نتجت عن تصدع القشرة الأرضية على مستوى الكوكب تحت البحار والمحيطات واليابسة ) بدليل قوله تعالى: )والأرض ذات الصدع (، هي القطع المقصودة قرآنياً والتي تنقسم إليها كل القشرة الأرضية، أي: ( القطع المتجاورات ) ولو كانت الأرض مستوية مسطحة لتجاورت كل القطع ما عدا القطع الموجودة في أطرافها بينما لكي يتحقق التجاور للجميع طبقاً للنص القرآني: )قطع متجاورات (فلا بد أن يكون السطح كروياً لأن انحناء السطح يؤدي إلى تجاور جميع القطع، الأمر الذي لا يتوفر مطلقاً في السطح المستوي.. فهل أدركت عزيزي القارىء دقة التعبير القرآني في عبارة ( قطع متجاورات )..
ولو نظرنا مثلاً إلى موقع مكة المكرمة ( أم القرى ) على اليابسة نجد أن هذه المدينة المقدسة تتوسط سطح اليابسة، كما يقول الدكتور محمد عوض في بحثه في مجلة ( الهلال ) ( أغسطس 1953م ): أن الكعبة مركز الأرض بمفهوم القارات، أي: اليابسة، لأن المحيط الهادي وهو أكبر المحيطات يشكل انقطاعاً كبيراً جداً بين القارات بمساحته الكبيرة التي تصل اليابسة، لذلك ترسم مصورات العالم بدءاً من استراليا واليابان والصين شرقاً، وانتهاء بأمريكا غرباً لتمثل كل اليابسة، ولو مسحنا هذه القارات بما فيها القارة القطبية الجنوبية والشمالية، وكتبنا عليها مساحاتها، ورحنا نفتش عن مركز يتوسطها، أو عن مركز ثقلها بدقة تامة، لوجدناه في الكعبة المشرفة بالذات، وهذا يذكرنا بالأثر الذي يقول: ( الكعبة سرة الأرض )، لهذا يقول تعالى لنبيه الكريم: )لتنذر أم القرى ومن حولها (، وعبارة: ( من حولها ) تعطي المركزية لمكة المكرمة، لذلك اقترح أحد علماء باكستان أن تكون مكة المكرمة بداية لخطوط الطول بدلاً من جرينتش، كما أن هذه الوسطية لموقع مكة المكرمة مع حقيقة كروية الأرض تؤديان إلى انحناء الطرق المؤدية لمكة المكرمة عن المستوى الأفقي، نظراً لبعد المسافات بينها وبين الأماكن التي حولها حتى نهاية اليابسة من كل فج، أي: من جميع الجهات، لهذا اختار الله سبحانه وتعالى وصفاً قرآنياً معجزاً لهذه النهايات بالتعبير في آية أخرى عن كل فج بلفظ: ( عميق ) بدلاً من لفظ: ( بعيد )، نظراً لكروية الأرض، كما في قوله تعالى: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ([الحج: 27].
إن كلمة ( عميق ) تشهد بعظمة القرآن حتماً، فلو كانت الأرض مستوية مسطحة لنزلت الآية بصيغة )يأتين من كل فج عميق (،لأن كلمة ( بعيد ) تفيد المسافة بين مكانين على مستوى واحد، ولكن الأرض كروية، فالقادمون إلى مكة يأتون من بقاع عميقة بالنسبة لها، كما تقتضي الهندسة الفراغية للأشكال الكروية.... سبحان خالق الأرض الكروية ومنزل القرآن مفصلاً على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون.
ونظراً لأن الأرض كروية وليست مسطحة، فإن كلا من الليل والنهار موجودان معاً في آن واحد على نصفي هذه الكرة، لأن نصفها المواجه للشمس يكون نهاراً، بينما النصف الآخر يكون ليلاً، ولهذا يعبر الله عن هذه الحقيقة في قوله تعالى: )أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ([يونس: 24].والتعبير بحرف ( أو ) هنا دليل على تزامن ظاهرتي الليل والنهار على الكرة الأرضية وعلى أن الأمر الإلهي المقصود هنا سوف يأتي لتحطيم حضارات مغرورة ( في لحظة واحدة ) يكون بعضها في المشرق والأخرى في المغرب، أي: ليلاً أو نهاراً، كما أفهم من سياق هذه الآية في قول الله تعالى
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ([يونس: 24].
( جـ ) استمرار تغير مورفولوجيا سطح الأرض:
علاوة على كروية الأرض يشير القرآن الكريم إلى تغير مستمر يحدث في شكل سطح الأرض اليابسة في قوله تعالى: )أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ([الرعد: 41]. والتعبير هنا بالفعل المضارع يفيد: أن الإنقاص لأطراف الأرض مستمر وجاري وحاصل الآن، بل وحدث في الماضي أيضاً تبعاً لوحدة سُنّته الحكيمة في الخلق في الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا علمنا أن 27% من سطح كوكب الأرض يابس قاري أو جبلي مرتفع، والباقي 73% غير مرتفع، أي: في مستوى ماء البحار والمحيطات، فإن المعنى الفيزيائي والجيولوجي لهذه الآية والمشار إليه بإنقاص الأرض من أطرافها يحتمل والله أعلم.
عدة تفسيرات علمية بالاستعانة بما يجري لليابسة من نقص مستمر من أطرافها كما يلي:
( 1 ) استمرار انكماش سطح الكرة الأرضية امتداداً لأثر التبريد الذي حدث لقشرتها منذ انفصالها من الشمس منذ 406 مليار سنة وحتى الآن، وأدّى إلى نقص محيط هذه الكرة بحوالي 300كم حتى الآن، وما زال التبريد مستمراً مما يؤدي إلى نقص أقطارها من أطرافها، ويمكن الكشف عن هذا النقص البطيء والتدريجي بأجهزة الاستشعار عن بعد من الفضاء، والتي تستخدم حالياً لقياس الطيات الحادثة في قشرة كوكب الأرض للتنبؤ بحدوث الزلازل.
( 2 ) الطغيان المستمر لمياه البحار والمحيطات، فقد غمرت هذه المياه في الماضي معظم الأراضي التي نراها الآن يابسة، وربما حدث ذلك عدة مرات نتيجة الانخفاض المحلي في جزء من الأرض أو الارتفاع العام بمستوى سطح البحر بما يؤدي عادة إلى هذا الطوفان والطغيان على الأرض المنخفضة من شواطىء القارات، وبلغة الجيولوجيا يمكن القول بأن الشواطىء التي تفصل اليابسة عن البحار تعتبر دائماً حدوداً مرنة غير ثابتة قابلة للتغيير، وهناك نماذج لمدن مغمورة تحت البحر، وهذا يحدث باستمرار بل ونتوقعه في المستقبل بالنسبة، لدلتا النيل والساحل الشمالي على سبيل المثال، فقد تنقص مصر ـ لا قدر الله ـ من أطرافها، وهذا قد يحدث في كل أطراف الأرض اليابسة لكل الكوكب نتيجة ارتفاع مستوى البحار نظراً لتراكم الرواسب والكفح البركاني في قاع البحر وارتفاع القشرة الأرضية لهذا القاع وانصهار بعض المناطق الجليدية نتيجة الارتفاع التدريجي لدرجة حرارة الكوكب بسبب التلوث الجاري في عصرنا، وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض، وغير ذلك من عوامل، وبهذا فإن الآية القرآنية تؤكد أن الشواطىء بصفة عامة ومستمرة ما هي إلا تضاريس عابرة مؤقتة تتغير مواقعها في الماضي إلى حدود جديدة في المستقبل... وقصة سيدنا نوح في القرآن الكريم تذكرنا بنقص من أطرافها في الطوفان العظيم.
( 3 ) تأثير عوامل التعرية بإنقاص الأرض من أطرافها، فالجبال المرتفعة مثلاً ليست دائمة أو خالدة، لأن الصخور تتحطم وتتآكل بمرور الزمن بمساعدة المياه الجارية على سفوحها وتأثير الرياح الشديدة، ويتحرك حطام الصخور عادة من هذه القمم العالية ( التي تمثل أطراف الأرض ) إلى الوديان المنخفضة، وقد رأينا ذلك بأعيننا في زلزال ألاسكا عام 1964م الذي هز جبلاً عالياً وحطم جزءاً كبيراً من قمته في بضع دقائق، وهكذا ينقص الله سبحانه الأرض من أطرافها على مستوى الكوكب أو المستوى المحلي على الدوام، إما بالتدريج أو بالزلازل المفاجئة.
( 4 ) الإشارة إلى الفرق بين طول قطري الأرض الاستوائي والقطبي كدليل آخر على نقصها من أطرافها وكل هذه المعاني تقع في إطار الشرح العلمي للآية السابقة [ الرعد: 1]، التي تشير إلى إنقاص الأرض من أطرافها، ولو أن المفسرين القدامى رضي الله عنهم جميعاً ذهبوا إلى غير ذلك لأنهم لم يعرفوا كل هذه الحقائق العلمية.
والآن وقد أصبح لدينا البرهان العلمي الساطع لكروية الأرض ونقص أطرافها علمياً وقرآنياً كإعجاز ظهر في عصر الفضاء حتى تم التقاط صور عديدة للأرض من سفن الفضاء ومن سطح القمر، نبدأ في بيان الإعجاز العلمي للقرآن في آيات الحركة الأولى للأرض، أي: دورانها حول نفسها.
ثانياً ـ دوران الأرض حول نفسها مغزلياً:
ذكرنا في الجزء السابق في الأرض تبدو ظاهرياً مسطحة، بينما هي في الواقع كروية، وشتان بين الظن واليقين، فلقد طالعنا العلم الحديث بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس رغم سكون الأرض الظاهري الخادع لنا معشر البشر....
والإيمان بدوران الأرض أعصى من الإيمان بكرويتها، لأن الدوران حركة، وقد تعوّد الناس بالشعور بالحركة، وإذا كان قد قيل لهم: إن الأرض تتحرك لسارعوا إلى التكذيب، فكيف تتحرك وهم يرونها ساكنة لا يشعرون بدورانها ويعتقدون أنها ثابتة في مركز الكون، بينما باقي الأجرام السماوية تدور حولها فيما أطلق عليه الجميع ( النظرية المركزية الأرضية ) التي وضعت الأرض ثابتة لا حراك فيها في مركز دوران الجميع، أي: أن الشمس والكواكب والنجوم تدور سوياً مع دوران قبة السماء يومياً من الشرق إلى الغرب حول الأرض ـ الساكنة فرضاً ـ ولقد ظلت هذه النظرية الخاطئة سائدة حتى وقت قريب، ولقد ساهمت هذه الحركة الظاهرية اليومية الخادعة للقبة السماوية وأجرامها في إعطاء الانطباع الخاطىء بثبات الأرض وعدم تحركها، ولم يجرؤ أحد على تحدي هذا الانطباع إلى أن جاء كوبرنيكس عام 1543م، ونشر نظريته الجديدة التي وضعت الشمس لأول مرة في مركز المجموعة الشمسية وتدور الكواكب بما فيها الأرض، كل في مداره المستقل حول الشمس علاوة على دوران هذه الكواكب دوراناً مغزالياً، كل حول محوره المستقل.
وبهذا أعلن كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول محورها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام فيحدث تغير الفصول، وبهذا عرف الناس لأول مرة أن الأرض متحركة وليست ساكنة، وكان هذا الإعلان كارثة في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، وتعجبت الكنيسة لهذا الخبر الذي يتناقض للأسف مع معتقداتهم، ومع الإحساس الظاهري للبشر، ومع الجبال الساكنة في نظر كتاب النصوص المقدسة!... ولهذا قررت الكنيسة محاكمة هؤلاء العلماء في ذلك الوقت واتهمت كوبرنيكس بالكفر، ومصادرة وإحراق أبحاثه عن حركات الأرض، فهرب من روما حتى لا يتم القبض عليه، بينما أمر البابا بإحضار جاليليو بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرك الأرض، وحكمت الكنيسة عليه بالسجن مدى الحياة، وتوفي وهو مؤمن بدوران الأرض، كما أعدمت الكنيسة برونو حرقاً في ميدان عام لدفاعه عن تحرك الأرض وتوقع وجود أراضين أخرى!.
وهكذا كان اضطهاد الكنيسة للعلماء قاسياً، بل ومهزلة كبرى، مما أدعى إلى الانفصام والعداء بين العلم والدين في أوروبا، وبدأت فعلاً الثورة العلمية الكبرى في أوروبا في القرن السابع عشر وتحدى العلماء الكنيسة كرد فعل استرداداً لكرامتهم، وأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل لاحتوائها على عبارات تتعارض مع الحقائق العلمية، لأن نصوصها جميعاً توحي بسكون الأرض وعدم تحركها... وانتصر العلم وتراجع رجال الكنيسة وتقلص نفوذهم ودفعوا ثمن تحويرهم للكتب المقدسة، كما في قوله تعالى: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله (.
والآن! وقد ثبت علمياً أن الأرض تدور حول نفسها، بل وتنطلق أيضاً في الفضاء، ونحن معشر البشر نعيش على سطحها في هدوء واستقرار، ولكننا في الواقع أشبه ما نكون بركاب سفينة فضاء إلهية كروي تقريباً وسقفها الغلاف الجوي المحيط بها، تدور حول نفسها حالياً مرة كل 24 ساعة، وتدور أيضاً حول الشمس في مسار دائري تقريباً ( مرة كل سنة ميلادية ) نصف قطره 93 مليون ميل، كما تتبع الأرض الشمس في جريانها حول مركز المجرة وتتبعها في جريانها مع المجرة في الفضاء الكوني، ورغم أن كل هذه التحركات تتم بسرعات جبارة مقدارها على الترتيب 1044، 67000، 497000 ، 43000 ميل / ساعة، فإننا مستقرون فوق الأرض لا تتناثر أشلاؤنا ولا نشعر بالدوران أو الإغماء رغم أنها تتحرك، بل ترمح بنا في الفضاء دون أن تقذف بنا من على سطحها ودون أن تتعثر خطاها ودون أن نشعر بحركاتها.
ورغم كل هذه التحركات التي كشف عنها العلم الحديث لكوكب الأرض فإنه ما زال هناك من البشر، بل من المسلمين من ينكر دوران الأرض وتحركاتها المختلفة، لأن هذه الحقائق لا يشعر بها الناس نظراً لخفائها، فلو أن القرآن الكريم صارحهم وقت نزوله بحركات الأرض وهم يحسبونها ساكنة لكذبوه، وحبل بينهم وبين هدايته، فكان من الحكمة البالغة ومن الإعجاز العلمي والبلاغي في الأسلوب القرآني أن ينبه الله سبحانه وتعالى الناس إلى هذه الحقائق الكونية على قدر عقولهم بالإشارة، وليس بصريح العبارة في آيات قرآنية كريمة، من غير مخالفة للحقائق العلمية، بحيث يفهمون نصوص الآيات بقدر ما تيسر لهم من العلم في كل زمان، حتى إذا تقدم العلم كما هو حالنا الآن وجدوا في معاني القرآن ما يكشف تلك الحقائق، وهذا إعجاز في الأسلوب، فضلاً عن المعنى، لا يقدر عليه إلا الله، وقد تندهش ـ عزيزي القارىء ـ أن حركات الأرض كلها والمذكورة هنا مشار إليها قرآنياً في إعجاز علمي رائع... وفيما يلي أبدأ بالحركة الأولى وأعني الحركة المغزلية:
( أ ) الحركة المغزلية للأرض:
لقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى دوران الأرض حول نفسها كالمغزل من خلال الوصف الدقيق لنظام تولد الليل والنهار، كما في قوله تعالى:
)يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً ([الأعراف: 54].
)يغشى الليل النهار ([الرعد: 3].
)يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ([الزمر: 5].
)يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ([لقمان: 5].
)وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ([يس: 37].
دوران الأرض المغزلي حول نفسها ينتج عنه الليل والنهار
وقد وضح المفسرون آية الإعشاء بأنه تعالى يغطي أو يلحق زمنياً كلاً من الليل والنهار بالآخر بسرعة، أو أنه يجعل زمن الليل وزمن النهار يتعاقبان بسرعة على الأرض، كما أوضح المفسرون آية الانسلاخ بأنه تعالى يفصل أو يزيل النهار من الليل فيدخل الناس في الظلام، وفسروا المقصود بالتكوير والإيلاج أنه تعالى ينقص في زمن الليل بقدر ما يزيد في زمن النهار، وبالعكس.
وبهذا كان مفهوم الليل والنهار لدى المفسرين مفهوماً زمنياً في هذه الآيات، وهذا هو المعنى الأصلي اللغوي، ولكننا إذا تدبرنا هذه الآيات في عصر العلم الحديث لوجدنا معاني أخرى مقصودة تشير إلى أن لفظي الليل والنهار يقصد بهما في القرآن في معظم الآيات لازمين من لوازمهما، وذلك: إذا استخدمنا ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل لغوياً، والذي أخذ به المفسرون في آيات أخرى بمعنى الظلام والنور ( وليس بالمعنى الزمني ) كما في تفسيرهم لقوله تعالى على سبيل المثال:
)والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى ([الليل: 1 ـ 2].
)وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً ([النبأ: 10 ـ 11].
)وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ([يونس: 67].
وبهذا ذكر الله الليل والنهار في هذه الآيات الأخيرة قاصداً بالليل ظلمته، وبالنهار نوره، وقرينة هذا القصد:
1ـ قوله تعالى في الأولى: )يغشى (، )تجلى (لأن الذي يغشى، أي: يغطي الأرض، هو ظلمة الليل لا زمنه، وما يتجلى أي: يظهر بوضوح على الأرض هو نور النهار في الغلاف الجوي وليس زمنه.
2ـ قوله تعالى في الثانية: )لباساً (، )معاشاً (،لأن ما يغطي الناس كاللباس هو ظلمة الليل لا زمنه، وما يساعد على المعاش هو نور النهار وليس زمنه.
3ـ قوله تعالى في الثالثة: )لتسكنوا فيه (و )مبصراً (لأن زمني الليل والنهار لا يساعدان مطلقاً على السكون والإبصار، وإنما يساعد عليها ظلمة الليل ونور النهار، وبهذا يتضح أن المفسرين وضحوا هذه الآيات الثلاثة الأخيرة بالمعاني التي ذكرناها، أي: باستخدام المجاز المرسل بتأويل والنهار بمعنى الظلام والنور مع الأخذ بالمفهوم الأصلي الزمني لليل والنهار، وهذا صحيح ولكنهم لم يستخدموا هذا المجاز في آيات الأغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ!!.
ولو تبصرنا، نحن الآن، في نور القرآن والعلم، وتدبرنا آيات تولد الليل والنهار الخاصة بالإغشاء [ الأعراف: 54 ، والرعد: 3 ]، والتكوير [ الزمر: 5] ، والإيلاج [ لقمان: 5]، والسلخ [يس: 37]، تجد أن هذه الآيات مقصود بها أيضاً المجاز المرسل، أي: لوازم الليل والنهار وليس زمنهما، ولتوضيح ذلك نتعرض أولاً لمفهوم المجاز المرسل لغوياً بمعنى إطلاق اللفظ أو الشيء، وقصد أحد لوازمه مع وجود قرينة تدل عليه، مثال ذلك عندما أقول: ( قر مجلس القسم ) أعني تماماً: ( قرار أعضاء مجلس القسم ) لأن المجلس لا يقرر، ولكن الأعضاء هم الذين يتخذون القرار وعضو هيئة التدريس لازم للمجلس، وإذا استعرضنا لوازم الليل والنهار في علم الطبيعة نجد عددها ستة بخلاف المعنى الأصلي الزمني وهي مازاً: ظلام الليل ونور النهار، مكان حدوث الليل ومكان حدوث النهار، سبب حدوث الليل وسبب حدوث النهار.
وباستخدام الاحتمالات المنطقية من هذه اللوازم نصل ـ بإذن الله ـ إلى التفسير العلمي لآيات الإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ، على الترتيب، ونصل أيضاً إلى إعجاز علمي قرآني عجيب!.
( أ ) آيات الإغشاء:
قال تعالى: )يغشي الليل والنهار (ومعناها: على اعتبار أن فيها حذفاً تقديره:
يغشي الليل والنهار ويغشي النهار الليل، أي: أنه تعالى يغطي بالليل النهار ويغطي بالنهار الليل على سطح الأرض، وحيث إنه لا معنى لتغطية زمن بزمن فيكون المعنى بالمجاز المرسل: 0 يغطي الله بظلمة الليل مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويغطي الله بنور النهار مكان الليل فيصير نهاراً )، والقرينة على هذا المعنى المقصود قوله سبحانه: )يغشي (أي: يغطي، لأن الإغشاء يقتضي تغطية شيء بشيء، والأول المراد تغطيته هو مكان النهار ثم مكان الليل، والثاني: وهو الغطاء هو ظلمة الليل ثم نور النهار.
يقول تعالى: )يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ([الأعراف: 54].
وهذه الآية جاءت لتصف تعاقب الليل والنهار عقب تمام خلق السماوات والأرض، حيث جعل الله ظلمة الليل تطلب مكان النهار، وضياء النهار يطلب مكان الليل على الأرض بسرعة لا بطء فيها في بداية تاريخ كوكب الأرض، وهذا لا يحدث إلا بدورانها سريعاً حول محورها، بحيث يتعاقب الليل والنهار بدليل العبارة القرآنية )يطلبه حثيثاً (وبذلك لا يبقى مكان على الأرض دائم الليل أو دائم النهار علاوة على أن الدوران السريع للأرض في بداية الخلق إعجاز علمي سنوضحه فيما بعد.
( ب ) آية التكوير:
قال تعالى: )يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل (، والتكوير كما ذكرناه أصل معناه في اللغة: لف شيء على آخر في اتجاه مستدير ( مثال: كار العمامة على رأسه )، وحيث إنه لا معنى لتكوير ( أي: لف ) زمن على زمن، فإننا منطقياً لا بد أن نبحث عن المعنى المقصود باستخدام المجاز المرسل، وبهذا فإن التفسير العلمي الصحيح لهذه الآية هو: يكور ( أي: يلف أو ينشر في اتجاه مستدير ) الله تعالى ظلمة الليل على مكان النهار على سطح الأرض فيصير ليلا، ويكور سبحانه نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وهذا معناه بلغة علم الطبيعة والفلك: ( لف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس )، وذلك حتى يحدث تتابع الليل والنهار في الغلاف الجوي للأرض، ويؤيد ذلك: آية الإيلاج وتكرار الفعل يولج، وآية التكوير وتكرار الفعل يكور، فالتكرار هنا يؤكد الحركة المغزلية للأرض لكي يحدث تتابع الليل والنهار، ويحل أحدهما مكان الآخر.
( جـ ) آية الإيلاج:
قال تعالى: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل (،والإيلاج أصل معناه: إدخال شيء في آخر بحيث يحيط به ويساويه، حجماً ومساحة، وحيث إنه لا معنى مطلقاً لإيلاج زمن الليل في زمن النهار أو بالعكس، فإن المقصود من تعاقب الليل والنهار بإيلاج كل منهما في الآخر هو بالمجاز المرسل، إيلاج لازم من لوازم الليل في آخر من لوازم النهار السابق ذكرها والمعنى المنطقي المقصود باختيار اللازم المناسب هو ( يولج الله مكان الليل في مكان النهار فيصير نهاراً، ويولج مكان النهار في مكان الليل فيصير ليلاً. أي: يجعل مكان الليل يحل محل مكان النهار والعكس بالعكس على سطح الأرض ).
صورة للأرض ويظهر فيها كيف الليل يلج في النهار
وهذا معناه بلغة الطبية والفلك: أنه تعالى يجعل الأرض تدور حول نفسها أمام مصدر الضياء من الشمس ( أو النجوم بالنسبة للأرضين الأخرى )، فيتبادل كل من الليل والنهار مكان الآخر على الأرض، أي: يحل الأول محل الثاني، وبالعكس بالتساوي تماماً، وبذلك يتعاقب الليل والنهار على الأرض مع تساوي مساحة مكان كل منهما، أي: تساوي حجم نصفي الكرة الأرضية حول محورها، حتى يتوفر معنى الإيلاج لغوياً، وحيث إن سطح الأرض منحني ومنقسم قسمين أحدهما يكون نهاراً والآخر ليلاً، وذلك نتيجة من آية التكوير، وحيث إن مكان الليل والنهار على الأرض متساويان ويتبادل كل منهما مكان الآخر بدورانها حول نفسها ( معنى آية الإيلاج )، وحيث إن هذا التبادل يستلزم تماثل وتساوي المكانين حجماً ومساحة حتى يمكن إحلال كل منهما محل الآخر، لأنه إذا زاد أو نقص ـ أي: المكانين عن الآخر ـ لا يتحقق هذا التبادل المتماثل في الإحلال، ولا يتحقق المعنى اللغوي للإيلاج في الهندسة الفراغية، وهذا التماثل يؤدي إلى استنتاج كروية الأرض وانتظام شكلها، لأن نصفيها متساويان والمحور ينصف الكرة تماماً.
والخلاصة: أن نظام تولد الليل والنهار طبقاً للوصف القرآني يؤدي إلى أن الأرضين عموماً خلقت كروية الشكل تدور كل أرض حول نفسها، أي: حول محورها الذي لا بد وأن يقسمها قسمين متساوين تماماً أمام النجوم، أي: الشموس الملازمة لها، فصار الليل والنهار يتعاقبان بالإغشاء والتكوير والإيلاج، وكل لفظ منها يؤكد الحركة المغزلية للأرض، أليس هذا إعجاز قرآني عزيزي القارىء!.
( د ) آية الإنسلاخ:
يقول تعالى: )وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ([يس: 37].
والسلخ أصل معناه فصل الجلد من اللحم، وحيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل، وأن الآية أو الدليل المقصود على قدرة الصانع جل وعلا ليس هو زمن الليل بل مكانه الذي ينسلخ منه النهار بدوران الأرض مغزلياً، فيكون تعالى قد ذكر الليل وقصد مكانه الذي يحدث فيه، وقرينته قوله تعالى: )وآية لهم (،ثم قوله تعالى: )نسلخ منه النهار (،أي:نسلخ من الليل، والمقصود: نسلخ من مكان الليل نور النهار، وقرينته قوله: )نسلخ (لأن السلخ يقتضي فصل شيء من شيء، وهو فصل النور من مكانه الذي سيصير مكان الليل.
وبناءً على ذلك: يكون معنى الآية: ودليل لهم ( للناس ) على قدرتنا مكان الليل، إذ نسلخ أو نزيل منه نور النهار من مكانه على الأرض تماماً، كما نسلخ الجلد من اللحم فيدخل الناس في الظلام.
وإن في تشبيه إزالة نور النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية لبيان أن ضوء النهار ينشأ في سطح الغلاف الجوي للأرض، ولا يمتد إلى باطنها، كما ينشأ جلد الحيوان من لحمه ولا يمتد إلى باطنه، وبهذا فإن نور النهار مكتسب ومعكوس من سطح الأرض ومشتت في غلافها الخارجي، وليس ضوءاً ذاتياً كما في النجوم، وبهذا تظهر الحكمة في التعبير القرآني بسلخ نور النهار من الغلاف الجوي الذي يصبح ظلاماً بدون أشعة الشمس، كما أن الليل أو الظلام هو الأصل في الكون، فظلام الفضاء الكوني سائد حول جميع الأجرام لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث التشتت لضوء النجوم الذي لا يظهر إلا بالانعكاس على سطوح الأجرام أو التشتت في غلافها الجوي.
مما تقدم يتضح أن النتائج المستنبطة[3]من آيات توليد الليل والنهار بالإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ نتائج علمية هامة، ولكنها صعبة الفهم على ذهن من لم يكن ملماً بعلم الطبيعة والفلك إلماماً كافياً، وكما أنها نتائج لم يصل إليها علماء التفسير من قبل لتمسكهم بالمعنى الزمني لليل والنهار، وكان لهم في ذلك عذر واضح هو أن يجعلوا من تفسيرهم معنى يسهل فهمه ويتفق مع ما يعتقدوه ومع ما يشاهده الناس من سكون ظاهري للأرض، جزاهم الله خيراً على مجهودهم، ولو أن تفسيرهم للآيات الكونية لا يتفق تماماً مع بلاغة القرآن في الإيجاز الجامع ولا يظهر إعجازه العلمي، لأنه يجعل للآيتين المختلفتين معنى واحداً، كما فعلوا في آيات التكوير والإغشاء والإيلاج، بدلاً من المعاني المختلفة التي توصلنا إليها في هذه المحاضرة كما تقضي بلاغة القرآن وإعجازه العلمي.
والقرآن لا ينكر صعوبة القضية، بل يصرح بها في آيات مختلفة بقوله سبحانه: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ([آل عمران: 190].
وأولي الألباب: أي: أولى العقول المتعلمة المتخصصة، وقوله تعالى مشيراً إلى دوران الأرض حول نفسها: )والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ([الفجر: 4].
والحجر معناه: العقل المفكر، وهذا القسم يصف الليل بالحركة كناية بالغة عن حركة الأرض حول نفسها، ولقد تكرر هذا القسم بقوله سبحانه:
)والليل إذا أدبر... ([المدثر: 33]. )والليل إذا عسعس ([التكوير: 17].
وفعل عسعس معناه: أقبل ظلامه أو أدبر، وفعل يسر معناه: التحرك كما ذكرنا.
ونلاحظ أيضاً: أن الله لم يصف النهار بالإقبال والإدبار، لأن هذا أمر طبيعي ينتج من إدبار الليل وإقباله، بل وصفه بالوصف الخاص بظواهر النور وسلوك الضوء القادم من الشمس أثناء اختراقه لطبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض مسبباً بالانكسار والتشتت والانعكاس ظواهر الإسفار في أول النهار، والشفق في آخر النهار، والنور أثناء النهار، ولولا الغلاف الجوي لساد الظلام فوق رؤوسنا رغم بزوغ الشمس، كما هو الحال في الفضاء، فتأمل قوله تعالى:
)والصبح إذا أسفر ([المدثر: 34].
)والنهار إذا جلاها ([الشمس: 3].
وليس على القمر نهار كالذي نعرفه على الأرض تتجلى فيه الشمس، فسماء القمر حالكة السواد، وكذلك الفضاء بعد مغادرة الغلاف الجوي للأرض، أليس في كل هذا القسم بالليل والنهار أكبر داع لنا أن نتأمل ونتساءل عما أودع الله منهماا من عظيم حكمته ومظاهر عظمته وقدرته حتى استحقت أن يقسم الله لعباده بها وهو خالقهم وخالقها.
وهناك آيات قرآنية أخرى تشير إلى دوران الأرض حول نفسها مغزلياً كما في قوله تعالى: )يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ([النور: 44].فالتقليب هنا حقيقة تحدث فعلاً، ويعني الحركة، وإحلال أحدهما محل الآخر حتى يتم التقليب، مشيراً بذلك على الدوران المغزلي للأرض بصريح العبارة بإحلال مكان الليل مكان النهار وبالعكس، وسبحانه الله مقلب الليل والنهار ومنزل القرآن.
( هـ ) آية السباحة في فلك:
قوله تعالى مؤكداً هذه الحقيقة كسنة كونية سائدة لجميع الأجرام منذ بدأ خلقها: )وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ([الأنبياء: 33].فالآية هنا تشير إشارة دقيقة لطيفة إلى حركة الأرض ودورانها في النص القرآني المعجزة بنور العلم والبصيرة، واليل والنهار لغوياً ظرفاً زمان ولا بد لهما من مكان، كما تعلمنا في الفيزياء النسبية بأنه لا زمان بدون مكان، والمكان الذي يظهر فيه الليل والنهار هو بالتأكيد الأرض، وتشرق الشمس وتغرب ظاهرياً نتيجة الحركة الحقيقية المغزلية للأرض فيتولد الليل والنهار، ولولا دوران الأرض لما ظهر أو تعاقب ليل ولا نهار، فكأنه تعالى قول لنا في الآية الأخرى:
)وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (، أي: أن كل من الأرض والشمس والقمر يسبح في هذا الفضاء الشاسع في فلك مستقل به... يا سبحان الله، فسوف نعرف في لقاء قادم كل هذه الأفلاك في دوران الأرض حول الشمس، ودوران الشمس حول مركز المجرة، ودوران القمر حول الأرض... وغير ذلك من أفلاك لجميع الأجرام السماوية، ولكن ما يهمني هنا هو الفعل ( يسبحون ) أي: يدورون، كما قال الحافظ ابن كثير.
قال ابن عباس: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة.
وقال مجاهد: لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل كذلك النجوم والشمس والقمر[4].
وإنني ألاحظ هنا أنهم جميعاً لم يذكروا الأرض ضمن هذا الدوران المغزلي، لأنهم لم يدركوا كما ندرك الآن عمق المعنى، فالفعل ( يسبحون ) جاء هنا بصيغة الجمع ولو كان للشمس والقمر فحسب لجاء التعبير بالمثنى ( يسبحان )، ولكنه أراد بلك الأرض والشمس والقمر كمجموعة متكاملة، ولهذا عبر الفعل ( يسبح ) عن الأرض بدلالة الليل والنهار بالمجاز المرسل، بل وأطلق عليها لفظة الخلق ( خلق الليل والنهار )، والخلق لغوياً لا يكون إلا للشيء الحسي، لا للظرف الزماني، فسبحان من أنزل القرآن بدقائق الأخبار، وبدائع الأسرار تذكرة لأولي الأبصار.
وإطلاق الظرف وإرادة المحل والمكان معروف كما ذكرنا في اللغة، ومشهور في الآيات الغير كونية أيضاً كقوله سبحانه عن أهل الجنة: )وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون([آل عمران: 107]. الرحمة هنا صفة لا يمكن أن يحل بها الإنسان، ولما كانت الجنة هي مكان تنزل رحمة الله، كما يقول فضيلة الشيخ الصابوني، معناه: إطلاق الصفة ويراد بها الموصوف، أو الظرف ويراد به المظروف، وقد يقول قائل: لماذا لم يصرح القرآن الكريم بأن للأرض فلك وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس، كما صرح بذكر فلكي الشمس والقمر، والجواب: أن القرآن حكيم كما قال سبحانه: )آلم تلك آيات الكتاب الحكيم (،هو حكيم في تعبيره، كما هو حكيم في تشريعه، وقد أمرنا أن نخاطب الناس بقدر عقولهم، كما قال الإمام علي رضي الله عنه: ( خاطبوا الناس بقدر عقولهم، أتحبون أن يكذب الله ورسوله )، فهل من الحكمة عزيزي القارىء أن يكشف القرآن وقت نزوله عن أمور لا تتحملها عقول البشر، وأن يخاطبهم بما يسارعون إلى إنكاره أو تكذيبه؟ ولهذا هيأ الأسلوب القرآني الرائع القلوب والأذهان لاستقبال ما سيتمخض عنه الزمان بلا جحود ولا تحجر ولا تكذيب ولا استهزاء وذلك مع روائع حكمة القرآن، فهل أدركت عزيزي القارىء في عصر الفضاء معنى قوله تعالى: )كل في فلك يسبحون (؟لقد شاهد رواد الفضاء كوكب الأرض تسبح في هذا الأفق البعيد، رأوها تدور حول نفسها وحول الشمس.. حقاً رأوها رأي العين، فلم يجدوها مرتكزة على حيتان أو على قرن ثور، بل هي معلقة في هذا الفضاء الواسع دون أن تهوي بنا في ظلمات الكون، وتجري دون أن تقذف بنا من على سطحها وما يمسكها إلا الرحمن، كما في قوله تعالى: )إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ([فاطر:41].فالسماوات قائمة بدون عمد والأرض تدور كبقية الأجرام في أفلاك هذا الفضاء الشاسع، ولو كانت الأرض مرتكزة أو واقفة على شيء لما احتاجت إلى إمساك تماماً كالكرسي الذي تضعه على الأرض لا يحتاج على أحد يمسكه، لكنك إذا رفعته عن الأرض في الهواء فعليك أن تبحث عن وسيلة إمساكه... فكذلك الأرض في ملكوت الله وفضائه الواسع أمسكتها يد العزيز الرحيم الذي أطلق قوانين الجاذبية والطرد المركزي لتصنع الميزان الإلهي، كما في قوله تعالى: )والشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يسجدان. والسماء رفعها ووضع الميزان ([الرحمن: 5 ـ 7]وكما أن قوله تعالى
والجبال أوتاداً ([النبأ: 7].تدل على حركة الأرض التي ثبتها الله بالجبال حتى لا تميد بنا أثناء حركتها كما في قوله تعالى: )وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ([الأنبياء: 31].أي: لئلا تضطرب بالناس اضطراباً مخلاً وتتزلزل تحتهم فلا يستقرون عليها، وفي تقديري: أن الذي يميد هو الشيء المتحرك وليس الساكن، فمعنى يميد ميداً: أي: تحرك مما يشير إلى الأرض، لأن الذي يخشى منه أن يميد ويضطرب هو الجسم المتحرك وليس الساكن، وحركة الأرض لم تكن معروفة للمفسرين القدماء بدليل قول الحافظ ابن كثير: جعل فيها جبالاً أرسى الأرض بها، وقررها وثقلها لئلا تضطرب بالناس وتتحرك، فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع، فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء... وكذا تخيل ابن كثير الأرض كسفينة ثابتة لا تتحرك ومغمورة فقط في هذه المحيطات المائية ولم يتخيلها متحركة في السماء تدور حول نفسها وحول الشمس، ولهذا أقول دائماً: إن المفسرين بشر يؤخذ من كلامهم ويرد، ولا بد من معارضة كل التفاسير التي تنفي حركة الأرض لأن السكوت على ذلك نوع من الجحود والتخلف وحجر على العقول والقلوب المتفتحة لرؤية حقائق القرآن بنور العلم والإيمان، وحجب لأهم مميزات القرآن وهي خلود وتجدد إعجازه، ويجب على علماء الدين وعلى الجامعات الإسلامية أن تتنبه لمثل هذه التفاسير الخاطئة حتى تنفي عن الإسلام ما هو منه براء.
( و ) آيات الظلال:
يقول تعالى: )ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً ([الفرقان: 45 ـ 46].
هاتان الآيتان دليل قرآني واضح على دوران الأرض حول نفسها لأنها لو كانت غير متحركة لسكن الظل ولم يتغير طولاً أو قصراً، كما عرفنا حديثاً، لأن ظاهره الظل وتغير طوله لا تعليل لها إلا بالدوران المغزلي للأرض، وليس كما توهم الناس بدوران الشمس حول الأرض من الشرق إلى الغرب في الحركة اليومية الظاهرية الخادعة التي لا وجود لها، والتي كان القدماء يعتقدون بوجودها متوهمين أن تغير طول الظل مشروط بانتقال الشمس من الشرق إلى الغرب، وكان هذا الاعتقاد الخاطىء مطبقاً في ما يسمى بالمزولة الشمسية لقياس الزمن من شرو