أثر العبادات في تهذيب النفوس
من محاسن الإسلام العظيمة أنه دين شامل لكل نواحي الحياة، فلا انفصال فيه بين العبادة والسلوك ، ولا بين العلم والعمل.
ومما لا شك فيه أن من أعظم غايات العبادات التي شرعها الإسلام
ـ وجوباً أو استحباباً ـ
هو تزكية النفوس وتهذيبها والترقي بها نحو محاسن الأخلاق ومكارمها
بحيث يصير المسلم المقيم لفرائض الله تعالى من أحسن الناس أخلاقاً وأنبلهم
سلوكا وأكرمهم شيماً.
وهذه الغاية نلمسها في كل شعيرة من شعائر الإسلام
وكل ركن من أركانه.
فالصلاة التي هي أهم الأركان في الإسلام بعد توحيد الله تعالى نجد أنها من
أعظم وسائل تزكية النفوس،
كما قال الله تعالى:
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
[العنكبوت/45]
و أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما قيل له :"إن فلانا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق ! فقال:
سينهاه ما تقول". أو قال :"ستمنعه صلاته " .
رواه أحمد و البزار و الطحاوي في " مشكل الآثار"(2/ 430)
و البغوي في حديث علي بن الجعد (9 /97/ 1)
و أبو بكر الكلاباذي في " مفتاح معاني الآثار"(31/ 1/ 69/ 1)
بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة . "اهـ
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه (6/300- بتحقيق الأرناؤوط) .
ونجد معنى آخر فى حديث آخر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"قَالَ رَجُلٌ :يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ فُلَانَةَ - يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا
وَصَدَقَتِهَا - غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ :هِيَ فِي النَّارِ.
قَالَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَإِنَّ فُلَانَةَ - يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا -
وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ :هِيَ فِي الْجَنَّةِ"
رواه أحمد في "المسند" (2/440)
وصححه المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/321) ،
والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/190).
فكأن حقيقة الصلاة أنها تزكية للنفس وتطهير لها من الأخلاق الرديئة والصفات السيئة.
والصيام من غاياته العظمى تحقيق التقوى
كما قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
[البقرة:183]
ولا تتم التقوى عند العبد إلا إذا حسن خلقه مع خلق الله تعالى ،
ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الوصية بالتقوى
والوصية بحسن الخلق حين قال:
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اتق الله حيثما كنت. وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"
رواه الإمام أحمد والترمذي.
فهذا حديث عظيم جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله
وحقوق العباد. فحقّ الله على عباده: أن يتقوه حقّ تُقاته.
فيتّقوا سخطه وعذابه باجتناب المنهيات وأداء الواجبات.
وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية كل رسول لقومه
أن يقول: "اعبدوا الله واتقوه".
كما وجه النبي صلى الله عليه وسلم الصائم إلى ضرورة التحلي بالحلم
وحسن الخلق حين قال مخاطبا الصائمين:
"وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله
فليقل إني امرؤ صائم" الحديث.
فتح الباري شرح صحيح البخاري- كتاب الصوم
والزكاة كذلك هي عبادة وفريضة وهي أيضا وسيلة من أعظم وسائل تطهير النفس
من البخل والشح والأنانية، وزرع معاني الفضيلة والألفة والرحمة والشفقة،
ولهذا قال الله عز وجل:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ
سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
[التوبة:103]
أما الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام فإننا نرى له أثرا عجيبا في
إصلاح الأخلاق وتهذيب السلوك
كيف لا والله عز وجل يقول:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ
جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}
[البقرة:197]
وحين يفسر النبي صلى الله عليه وسلم برّ الحج بأنه
كما قال الإمام الْقُرْطُبِيّ :الْأَقْوَال الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيره مُتَقَارِبَة الْمَعْنَى ،
وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامه وَوَقَعَ مَوْافقا لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّف عَلَى
الْوَجْه الْأَكْمَل.
نقله ابن حجر في (فتح الباري) .
فإننا نجد لذلك أثرا عظيما في سلوك كثير من حجاج بيت الله الحرام حين يحرصون على أن يكون حجهم مبرورا فيلينون بين أيدي إخوانهم، ويتحملون منهم من التصرفات والأفعال والأقوال في الحج ما قد لا يحتملونه في غير الحج حتى إنك ترى الرجل أثناء إحرامه يحرص على تجنب الجدل والمراء، بل لا يرد الإساءة بمثلها وهو نفسه الذي لو أوذيَ أو أُسيء إليه قبل تلبسه بالإحرام لثار وهاج وماج لكنه أثر العبادة على خُلُقه وسلوكه.
ولو أن المسلمين استلهموا هذه الروح واستشعروا هذه الغاية من عباداتهم في كل أحوالهم لتحسنت الأخلاق كثيرا ولنعم المجتمع المسلم بعلاقات ملؤها الحب والمودة والرحمة لكن الواقع المُشاَهد يجعل العبد يوقن بأن بعض الناس ربما استفاد لحظيا أو وقتيا من أثر عبادته لكن الأثر لم تكن له صفة الدوام والاستمرار، وهذا بلا شك خللٌ في التطبيق يحتاج إلى التذكير بأن من أعظم غايات تشريع العبادات في الإسلام تزكية النفوس وتقويمها ونهيها عن غيِّها والابتعاد بها عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور.