اخرس، إن غزة تتكلم.
اخرس، تتكلم.
اخرس، إن غزة تتكلم.
هكذا أقنعتُ نفسي.
ليس عندي ما أقوله لأحد.
أتصرف، كأنني لست موجوداً، إذ، غزة تملأ الحضور.
أتصرف، كأن لا احد سواها موجود. إذ، غزة هي المعنى، وما تبقى كلام، يليه كلام، يتبعه كلام... وأقول: ما أكثر هذا الغبار!
على أن عندي أشياء كثيرة أقولها لنفسي: لماذا ما زلت على قيد الحياة؟ ألم تقتل بعد؟ ألم تنتحر بعد؟ ألم يقضك العجز، فتتحول إلى إرهابي، أما زلت تتقيد بلوازم العقل، والعالم جنون وفوضى؟ أم انك مطمئن إلى وسائل الواقعية وأفنيتها وأنابيها الشعرية؟ لماذا لم تسأل نفسك بعد، لماذا تكتب بالحبر أحيانا، وبالنفط أحيانا، ولم تكتب بنقطة دم واحدة؟ لماذا تتفوه بكلام له سحنة أخلاقية، فيما أنت مقيم في انحطاط بشري سحيق، يسقط إلى قعره بلا هوادة؟
نعم، أقول لنفــسي: اخرس، إن غزة تتكلم.
ليس عندي ما أقوله للمتفرجين مثلي على غزة، ليس عندي ذرة كلام اقذفها إلى مهيجي حناجرهم في المظاهرات، ليس عندي ما أقوله للأنظمة السياسية المرعية الإجراء والنفاق، ليس عندي ما أقوله للأحزاب المصابة بشيخوخة الاستمرار؟؟. ليس عندي ما أقوله لإعلام يتنافس في غسل يديه من صورة الدم. ليس عندي ما أقوله لمجلس الأمن، أو للفقيدة العربية الجامعة لقمم العجز والخسائر. ليس عندي لهذا السحاب العربي المسجّى في السماء، سوى القول: إننا نشبهكم. لأننا لا نستطيع شيئاً لغزة.
ليس عندي سوى أن أجرجر نفسي إلى محاكمة لإصدار حكم مبرم: أنت فاشل ومغرور. أنت متواطئ وتدّعي البراءة. أنت مهزوم وتنشد الآن الآن وليس غداً، وكل الآن عندك، أمس ضائع وغد لن يجيء.
خسرت فلسطين، ولا تزال على قيد الحياة، ميتاً، يسير على جمل اسميه ويرطن بجمل فعلية، لا فعل فيها. خسرت القدس، وقلت أعوض عنها بالصلاة، والجمع بين القباب والمآذن والأجراس.
خسرت الضفة وسيناء، ولم تحدث لك بعد ذبحة سياسية واحدة، أنت عاجز. مفلس سياسياً وقومياً... ترتكب الثقافة ولا تنجب من الكلام جنساً من لذة الاستغراق في الحياة... تعوض عن عجزك بتدبيج اركيلة فنية حديثة، تفرقع أذواقا شتى.
ليس عندي سوى ما أقوله لي: عندما داهمتك غزة، انشغلت بالجواب: ماذا افعل؟ أتظاهر؟ اكتب نصاً؟ أتبرع بالدم؟ أتبرع بالمال؟ أصرخ في الشارع؟ أسب النظام؟ أعوّل على الدول العظمى؟ اعوّل على الملايين العربية؟... سألت نفسي: ماذا عليّ أن افعل، وما زلت أفكر، ولم افعل شيئا، ولن، لأنني لست موجوداً الوجود الفعلي كي افعل.
أنا سائح تافه.
احمل كاميرا وأخزّن أحزانا لأنساها، تماماً كما نسيت دير ياسين ومدرسة بحر البقر، ومعمل أبو زعبل، وقانا الأولى وقانا الثانية، وحروب النكبة والنكسة و"الغفران" بصيغتي تشرين وأوكتوبر.
أنا سائح مروّض، تأخذني عزة، فأنسى بيروت في العام ،١٩٨٢ وأتبادل الأدوار، فيقف العميل إلى جانبي، وأبتسم له، وأطويه إما في فريق ١٤ آذار، أو من فريق ٨ آذار، كل ما لديك من أرقام يساوي صفرا، ٨١٤= صفراً، قرارات مجلس الأمن، ١٨١ ٢٤٢١٩٤ ٤٢٥٣٣٨= صفرا يتدحرج إلى ما تحت القعر.
أقول لنفسي. أنت لم تكن في مطرح حقيقي، لتفعل شيئا من اجل غزة. تتغرغر بأفعال نيرك. كان الأجدى بك، أن تكون مقاوماً من زمان، متمرساً فيها، ملتزماً بها، حارساً لها، مقتدياً بها، مقيماً معها، متخندقاً في صفوفها.
وحده هذا المقام، لا يضعك في مقام الاتهام، ولا يلصق بك تهمة العجز.
إذاً، وفّر على نفسك يا رجل، ولا تقل شيئا. وإذا كنت قد كبرت في السن قليلاً، فبإمكانك أن تعوّض نقص العمر عندك بإعادة إنتاج ونشر ما يلي:
"عيّده العيد برشاش
فمضى يتصيّد ويصيب
في أرض أبيه وأجداده".
بالمناسبة، هذه الأغنية الفيروزية ممنوعة، لأنها تحض على العنف والإرهاب. فليكن. علينا إعادة إنتاج هذا الإرهاب الجميل، هذه الثقافة الإنسانية، ثقافة الحياة.
عليك يا رجل، أن تحوّل يدك إلى قبضة وكلماتك إلى لكمات، وعليك أيضا، أن تصبح مشروع إرهاب.
وإذا اتهمك العالم بالجنون، تيقن انك في المقام الصحيح، والمنزلة التي لا منزلة تشبهها.
نعم، ليس عندي، في هذا العالم العدمي، سوى التبشير بالعدم الإيجابي.
أليس كذلك يا غزة؟